الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فقد كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العشر الأواخر: أنه يجتهد فيها ما لا يجتهد في بقية الشهر؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره"(1).
وعنها -رضي الله عنها-: "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر شدَّ مِئْزَرَه، وأحيا لَيْله، وأيقظ أهله"(2).
أحيا ليله؛ أي: بالصلاة والذِّكر والدعاء، وأيقظ أهله؛ أي: أيقظهم من نومهم؛ ليجتهدوا في الصلاة والذِّكر والتضرُّع إلى الله تعالى، وهذه السُّنَّة قد لا ينتبه لها بعض المسلمين، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
أما شدُّ المئزر؛ فقد قال كثيرٌ من أهل العلم: إنَّه كنايةٌ عن اعتزال النساء والتفرُّغ للعبادة؛ ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يعتكف في هذه العشر في المسجد، وينقطع عن الدنيا، ويخلو بربِّه؛ يدعوه، ويناجيه، ويسأله، ويتضرَّع إليه.
والاعتكاف من أنفع العبادات لإصلاح القلوب، وجمع الهِمَم، والتخلُّص من العيوب، ومن جَرَّبَ عَرَفَ؛ فعن عائشة -رضي الله عنها-: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتَّى توفَّاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجُه من بعده"(3).
فإن قال قائلٌٌ: ما الحكمة في تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم للعشر الأواخر بكثرة الاعتكاف، والاجتهاد في طاعة الله؟
فالجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك التماسًا لـ"ليلة القدر".
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: "أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط في قبةٍ(4) تركيَّةٍ، على سُدَّتها حصيرٌ". قال: "فأخذ الحصير بيده، فنحَّاها في ناحية القُبَّة، ثُمَّ أطلع رأسه فكلَّم الناس، فدنوا منه"؛ فقال: «إني اعتكفتُ العشر الأول؛ ألتمسُ هذه الليلة، ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أُتيت فقيل لي: إنها في العشر الأواخر»(5).
فهذه الليلة ليلةٌ عظيمةٌ مباركةٌ، لا يُحْرَم خيرها إلا محرومٌ، وهي في العشر الأواخر، تنتقل فيها كما يريد الله؛ فعن عائشة -رضي الله عنها-: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تَحَرَّوْا ليلةَ القَدْرِ في الوتر من العشر الأواخِر من رمضان»(6).
وفي السبع الأواخِر آكد؛ فعن ابن عمر -رضي الله عنهما–: "أن رجالاً من أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخِر"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرى رُؤياكُمْ قد تَواطَأَتْ في السبع الأواخِر، فمَنْ كان متحرّيَها فليَتَحَرَّها في السبع الأواخِر»(7).
وكان أُبَيُّ بن كعب يحلفُ -لا يَستثني- أنَّ ليلة القدر ليلة سبعٍ وعشرين، قال زِرُّ بن حُبَيش: "بأي شيءٍ تعرف ذلك يا أبا المنذر؟!"، قال: "بالعلامة -أو بالآية- التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنَّها تطلُع يومئذٍ لا شعاع لها"(
.
وعن أبي سعيد الخُدْري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد رأيْتُ هذه الليلة فأُنسِيتها، فالتَمِسُوها في العشر الأواخر في كل وتر، وقد رأيْتُنِي أسجدُ في ماءٍ وطين». قال أبو سعيد الخُدْري: "مُطِرْنَا ليلةَ إحدى وعشرين، فَوَكَفَ(9) المسجد في مصلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظرتُ إليه وقد انصرف من صلاة الصبح، ووجهه مبتلٌّ طينًا وماءً"(10).
قال الحافظ ابن حجر: "والصحيح أنها في وترٍ من العشر الأواخِر، وأنها تنتقل"(11).
وهذه حكمةٌ إلهيَّةٌ؛ فلو حُدِّدَت لاجتهد الناس فيها وتركوا بقية الليالي، واستوى في ذلك المجتهد والكسول.
والنبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يحرص على هذه الليلة؛ لما جعل الله فيها من الفضل والأجر، فمِمَّا خصَّها الله به:
- أنها خير من ألف شهر؛ قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]؛ أي: العبادة فيها خيرٌ من عبادة ثلاثةٍ وثمانين عامًا وبضعة أشهر!!
- ومنها: أنه نزل فيها القرآن العظيم؛ قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [الدخان: 3]، وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدرِ} [القدر: 1]؛ أي: القرآن.
- ومنها: أنه يكثر نزول الملائكة فيها، لكثرة الخيرات والبركات؛ قال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 4، 5].
- ومنها: أن الله يغفر لمَنْ قامها إيمانًا واحتسابًا؛ فعن أبي هريرة: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا؛ غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه»(12).
وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم عائِشَةَ عِنْدَمَا سألتْهُ: "أرأيتَ إن علمتُ أيَّ ليلةٍ ليلةُ القدر، ما أقولُ فيها"؟ قال: «قولي: اللَّهُمَّ إنَّك عَفُوٌّ كريمٌ تحبُّ العفوَ، فاعْفُ عنِّي»(13).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.